سورة الممتحنة - تفسير تفسير البقاعي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الممتحنة)


        


ولما كان التأديب عقب الإنعام جديراً بالقبول، وكان قد أجرى سبحانه سنته الإلهية بذلك، فأدب عباده المؤمنين عقب سورة الفتح السببي بسورة الحجرات، وكانت سورة الحشر مذكرة بالنعمة في فتح بني النضير ومعلمة بأنه لا ولي إلا الله، ولذلك ختمها بصفتي العزة والحكمة بعد أن افتتحها بهما، وثبت أن من حكمة حشر الخلق، وأن أولياء الله هم المفلحون، وأن أعداءه هم الخاسرون، وكان الحب في الله والبغض في الله أفضل الأعمال وأوثق عرى الإيمان، ولذلك ذم سبحانه من والى أعداءه وناصرهم، وسماهم مع التكلم بكلمة الإسلام منافقين، أنتج ذلك قطعاً وجوب البراءة من أعدائه والإقبال على خدمته وولائه، فقال معيداً للتأديب عقب سورة الفتح على أهل الكتاب بسورة جامعة تتعلق بالفتح الأعظم والفتح السببي: {يا أيها الذين آمنوا} منادياً بأداة العبد وإن كان من نزلت بسببه من أهل القرب، ومعبراً بالماضي إقامة لمن والى الكفار نوع موالاة في ذلك المحل إلهاباً له وتهييجاً إلى الترفع عنه لئلا يقدح في خصوصيته ويحط من عليّ رتبته مع اللطف به بالتسمية له بالإيمان حيث شهد سبحانه على من فعل نحو فعله مع بني النضير بالنفاق وأحله محل أهل الشقاق، فحكم على القلوب في الموضعين فقال هناك: {الذين نافقوا} كما قال هنا: {الذين آمنوا}.
ولما كان قد تقدم في المجادلة النهي الشديد عن إظهار مطلق الموادة للكفار، وفي الحشر الزجر العظيم عن إبطان ذلك فتكفلت السورتان بالمنع من مصاحبة ودهم ظاهراً أو باطناً، بكت هنا من اتصف بالإيمان وقرعه ووبخه على السعي في موادتهم والتكلف لتحصيلها، فإن ذلك قادح في اعتقاد تفرده سبحانه بالعزة والحكمة، فعبر لذلك بصيغة الافتعال فقال بعد التبكيت بالنداء بأداة البعد والتعبير بأدنى أسنان الإيمان: {لا تتخذوا} وزاد في ذلك المعنى من وجهين: التعبير بما منه العداوة تجرئة عليهم وتنفيراً منهم والتوحيد لما يطلق على الجمع لئلا يظن أن المنهي عنه المجموع بقيد الاجتماع والإشارة إلى أنهم في العداوة على قلب واحد، فأهل الحق أولى بأن يكونوا كذلك في الولاية فقال: {عدوي} أي وأنتم تدعون موالاتي ومن المشهور أن مصادق العدو أدنى مصادقة لا يكون ولياً فكيف بما هو فوق الأدنى وهو فعول من عدى، وأبلغ في الإيقاظ بقوله: {وعدوكم} أي العريق في عداوتكم ما دمتم على مخالفته في الدين.
ولما وحد لأجل ما تقدم من الإشارة إلى اتحاد الكلمة، بين أن المراد الجمع فقال: {أولياء} ثم استأنف بيان هذا الاتحاد بقوله مشيراً إلى غاية الإسراع والمبادرة إلى ذلك بالتعبير بقوله: {تلقون} أي جميع ما هو في حوزتكم مما لا تطمعون فيه إلقاء الشيء الثقيل من علو {إليهم} على بعدهم منكم حساً ومعنى {بالمودة} أي بسببها.
ولما توقع السامع التصريح بمضادتهم في الوصف الذي ناداهم به بعد التلويح إليه، ملهياً ومهيجاً إلى عداوتهم بالتذكير بمخالفهم إياه في الاعتقاد المستلزم لاستصغارهم لأنه أشد المخالفة {وقد} أي هو الحال أنهم قد {كفروا} أي غطوا جميع ما لكم من الأدلة {بما} أي بسبب ما {جاءكم من الحق} أي الأمر الثابت الكامل في الثبات الذي لا شيء أعظم ثباتاً منه، ثم استأنف بين كفرهم بما يبعد من مطلق موادتهم فضلاً عن السعي فيها بقوله مذكراً لهم بالحال الماضية زيادة في التنفير منهم ومصوراً لها بما يدل على الإصرار بأنهم {يخرجون الرسول} أي الكامل في الرسلية الذي يجب على كل أحد عداوة من عاداه أدنى عداوة ولو كان أقرب الناس فكيف إذا كان عدواً، وبين أن المخاطب من أول السورة من المهاجرين وأن إيراده على وجه الجمع للسير والتعميم في النهي بقوله: {وإياكم} أي من دياركم من مكة المشرفة.
ولما بين كفرهم، معبراً بالمضارع إشارة إلى دوام أذاهم لمن آمن المقتضي لخروجه عن وطنه، علل الإخراج بما يحقق معنى الكفر والجداوة فقال: {أن} أي أخرجوكم من أوطانكم لأجل أن {تؤمنوا} أي توقعوا حقيقة الإيمان مع التجديد والاستمرار.
ولما كان الإيمان به سبحانه مستحقاً من وجهي الذات والوصف لفت الخطاب من التكلم إلى الغيبة للتنبيه عليهما فقال: {بالله} أي الذي اختص بجميع صفات الكمال، ولما عبر بما أبان أنه مستحق للإيمان لذاته أردفه بما يقتضي وجوب ذلك لإحسانه فقال: {ربكم} ولما ألهبهم على مباينتهم لهم بما فعلوا معهم وانقضى ما أريد من التنبيه بسياق الغيبة عاد إلى التكلم لأنه أشد تحبباً وأعظم استعطافاً وأكمل على الرضا فألهبهم بما كان من جانبهم من ذلك الفعل أن لا يضيعوه، فقال معلماً إن ولايته سبحانه لا تصح إلا بالإيمان، ولا يثبت الإيمان إلا بدلائله من الأعمال، ولا تصح الأعمال إلا بالإخلاص، ولا يكون الإخلاص إلا بمباينه الأعداء: {إن كنتم} أي كوناً راسخاً حين أخرجوكم من أوطانكم لأجل إيمانكم بي {خرجتم} أي منها وهي أحب البلاد إليكم {جهاداً} أي لأجل الجهاد {في سبيلي} أي بسبب إرادتكم تسهيل طريقي التي شرعتها لعبادي أن يسلكوها {وابتغاء مرضاتي} أي ولأجل تطلبكم بأعظم الرغبة لرضاي ولكل فعل يكون موضعاً له، وجواب هذا الشرط محذوف لدلالة {لا تتخذوا} عليه.
ولما فرغ من بيان حال العدو وشرط إخلاص الولي، وكان التقدير: فلا تتخذوهم أولياء، بنى عليه قوله مبيناً {تلقون} إعلاماً بأن الإسرار إلى أحد بما فيه نفعه لا يكون إلا تودداً: {تسرون} أي توجدون إسرار جميع ما يدل على مناصحتهم والتودد إليهم، وأشار إلى بعدهم عنهم بقوله: {إليهم} إبلاغاً في التوبيخ بالإشارة إلى أنهم يتجشمون في ذلك مستفتين إبلاغ الأخبار التي يريد النبي صلى الله عليه وسلم وهو المؤيد بالوحي كتمها عنهم على وجه الإسرار خوف الافتضاح والإبلاغ إلى المكان البعيد {بالمودة} أي بسببها أو بسبب الإعلام بأخبار يراد بها أو يلزم منها المودة.
ولما كان المراد بالإسرار الستر على من يكره ذلك، قال مبكتاً لمن يفعله: {وأنا} أي والحال أني {أعلم} أي من كل أحد من نفس الفاعل {بما أخفيتم} أي من ذلك {وما أعلنتم} فأيّ فائدة لإسراركم إن كنتم تعلمون أني عالم به، وإن كنتم تتوهمون أني لا أعلمه فهي القاصمة.
ولما كان التقدير بما هدى إليه العاطف: فمن فعل منكم فقد ظن أني لا أعلم الغيب أو فعل ما يقتضي ظن ذلك، عطف عليه قوله: {ومن يفعله} أي يوجد الاتخاذ سراً أو علناً أو يوجد الإسرار بالمودة فالإعلان أولى في وقت من الأوقات ماض أو حال أو استقبال. ولما كان المحب قد يفعل بسبب الإدلال ما يستحق به التبكيت، فإذا بكت ظن أن ذلك ليس على حقيقته لأن محبته لا يضرها شيء، وكان قد ستر المعايب بأن أخرج الكلام مخرج العموم، صرح بأن هذا العتاب مراد به الإحباب فقال: {منكم} وحقق الأمر وقربه بقوله: {فقد ضل} أي عمي ومال وأخطأ {سواء السبيل} أي قويم الطريق الواسع الموسع إلى القصد قويمه وعدله، وسبب نزول هذه الآية روي من وجوه كثيرة فبعضه في الصحيح عن علي ومنه في الطبراني عن أنس ومنه في التفاسير: أن سارة مولاة أبي عمرو بن صيفي بن هاشم بن عبد مناف أتت المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتجهز لفتح مكة فسألها ما أقدمها، فقالت: ذهب موالي وقد احتجت حاجة شديدة، وكنتم الأهل والعشيرة والموالي، فحث رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب وبني المطلب فأعطوها وكسوها وحملوها، فكتب معها حاطب بن أبي بلتعة حليف بني أسد بن عبد العزى من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدكم فخذوا حذركم، فأعطاها عشرة دنانير، فنزل جبريل عليه السلام بالخبر فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر وعلياً وعماراً والزبير وطلحة والمقداد وأبا مرثد وكانوا كلهم فرساناً فقال: «انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب من حاط إلى المشركين، فخذوه منها وخلوا سبيلها، وإن لم تدفعه إليكم فاضربوا عنقها» فانطلقوا تعادي بهم خيلهم، فأدركوها في ذلك المكان فأنكرت وحلفت بالله، ففتشوها فلم يجدوه فهموا بالرجوع، فقال علي رضي الله عنه: ما كذبنا ولا كذبنا، وسل سيفه فقال: أخرجي الكتاب أو لألقين الثياب ولأضربن عنقك، فقالت: على أن لا تردوني، ثم أخرجته من عقاصها قد لفت عليه شعرها، فخلوا سبيلها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاطب: هل تعرف الكتاب قال: نعم، قال: فما حملك على هذا؟ قال: لا تعجل يا رسول الله، والله ما كفرت منذ أسلمت ولا غششت منذ نصحتك ولا أحببتهم منذ فارقتهم، ولكن لم يكن أحد من المهاجرين إلا وله بمكة من يدفع الله به عن عشيرته، وكنت غريباً خليفاً فيهم، وكان أهلي بين ظهرانيهم فأردت أن أتخذ عندهم يداً يدفع الله بها عن أهلي، وقد علمت أن الله تعالى ينزل بهم بأسه، وأن كتابي لا يغني عنهم شيئاً، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدق ولا تقولوا له إلا خيراً، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما يدريك يا عمر لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» ففاضت عينا عمر رضي الله عنه وقال: الله ورسوله أعلم، فأنزل الله {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم} الآيات.
ولاق الإمام أبو جعفر بن الزبير: افتتحت- يعني هذه السورة- بوصية المؤمنين على ترك موالاة أعدائهم ونهيهم عن ذلك وأمرهم بالتبرؤ منهم، وهو المعنى الوارد في قوله خاتمة المجادلة {لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم} إلى آخر السورة، وقد حصل منها أن أسنى أحوال أهل الإيمان وأعلى مناصبهم {أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه} [المجادلة: 22] فوصى عباده في افتتاح الممتحنة بالتنزه عن موالاة الأعداء ووعظهم بقصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام والذين معه في تبرئهم من قومهم ومعاداتهم، والاتصال في هذا بين، وكأن سورة الحشر وردت مورد الاعتراض المقصود بها تمهيد الكلام وتنبيه السامع على ما به تمام الفائدة لما ذكر أن شأن المؤمنين أنهم لا يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا أقرب الناس إليهم، اعترض بتنزيهه عن مرتكباتهم، ثم أتبع ذلك ما عجله لهم من النقمة والنكال، ثم عاد الأمر إلى النهي عن موالاة الأعداء جملة له، ثم لما كان أول سورة الممتحنة إنما نزل في حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه وكتابه لكفار قريش بمكة، والقصة مشهورة وكفار مكة ليسوا من يهود، وطلبوا المعادة للجميع واحد، فلهذا فضل بما هو من تمام الإخبار بحال يهود، وحينئذ عاد الكلام إلى الوصية عن نظائرهم من الكفار المعاندين، والتحمت السور الثلاث وكثر في سورة الممتحنة تزداد الوصايا والعهود، وطلب بذلك كله ولهذا المناسبة ذكر فيها الحكم في بيعة النساء وما يشترط عليهن في ذلك، فمبنى السورة على طلب الوفاء افتتاحاً واختتاماً حسب ما بين في التفسير لينزه المؤمن عن حال من قدم ذكره في سورة الحشر وفي خاتمة سورة المجادلة- انتهى.


ولما كان ما بينه تعالى من إخراجهم لهم موضحاً بعداوتهم وكان طول كفهم عن قصدهم بالأذى من سنة الأحزاب سنة خمس إلى سنة ثمان ربما شكك في أمرها، وكان سبحانه قد أعز المؤمنين بعد ذلهم وقواهم بعد وهنهم وضعفهم، وثقفهم بعد جهلهم، بين ظلال معتقد ذلك بأن كف الكفار إنما هو لعجزهم وأنهم لو حصل لهم ما هو للمسلمين الآن من القوة لبادروا إلى إظهار العداوة مع أن ذلك في نصر الشيطان، فأولياء الرحمان أولى باتباع ما آتاهم من الإيمان، فقال مبيناً لبقاء عداوتهم: {إن يثقفوكم} أي يجدوكم في وقت من الأوقات ومكان من الأماكن وهم يطمعون في أخذكم بكونهم أقوى منكم أو أعرف بشيء مما يتوصل به إلى الغلبة، وأشار بأداة الشك إلى أن وجدانهم وهم على صفة الثقافة مما لا تحقق له، وإنما هو على سبيل الفرض والتقدير، وأنه إنما علم سبحانه أنه لو كان كيف كان يكون، مع أنه مما لا يكون، ونبه على عراقتهم في العداوة بالتعبير بالكون فقال: {يكونوا لكم} أي خاصة {أعداء} أي يعدون إلى أذاكم كل عدو يمكنهم وإن واددتموهم. ولما كانت العداوة قد تكون بإغراء الغير، عرف أنهم لشدة غيظهم لا يقتصرون على ذلك فقال: {ويبسطوا إليكم} أي خاصة وإن كان هناك في ذلك الوقت من غيركم من قتل أعز الناس إليهم {أيديهم} أي بالضرب إن استطاعوا {وألسنتهم} أي بالشتم مضمومة إلى فعل أيديهم فعل من ضاق صدره بما نجرع من آخر من غيركم من القصص حتى أوجب له غاية السعة {بالسوء} أي بكل ما من شأنه أن يسوء.
ولما كان أعدى الأعداء لك من تمنى أن يفوتك أعز الأشياء لديك، وكان أعز الأشياء عند كل أحد دينه، قال متمماً للبيان: {وودوا} أي وقعت منهم هذه الودادة قبل هذا لأن مصيبة الدين أعظم فهم إليها أسرع لأن دأب العدو القصد إلى أعظم ضرر يراه لعدوه، وعبر بما يفهم التمني الذي يكون في المحالات ليكون المعنى أنهم أحبوا ذلك غاية الحب وتمنوه، وفيه بشرى بأنه من قبيل المحال {لو تكفرون} أي يقع منكم الكفر الموجب للهلاك الدائم، وقدم الأول لأنه أبين في العداوة وإن كان الثاني أنكأ.
ولما كانت عداوتهم معروفة وإنما غطاها محبة القرابات لأن الحب للشيء يعمي ويصم، فخطأ رأيهم في موالاتهم بما أعلمهم به من حالاتهم، زهد فيها مما يرجع إلى حال من والوهم لأجلهم بما تورثه من الشقاء الدائم يوم البعث، فقال مستأنفاً إعلاماً بأنها خطأ على كل حال: {لن تنفعكم} أي بوجه من الوجوه {أرحامكم} أي قراباتكم الحاملة لكم على رحمتهم والعطف عليهم {ولا أولادكم} الذين هم أخص أرحامكم إن واليتم أعداء الله لأجلهم فينبغي أن لا تعدوا قربهم منكم بوجه أصلاً، ثم علل ذلك بينه بقوله: {يوم القيامة} أي القيام الأعظم.
ولما كان النافي للنفع وقوع الفصل لا كونه من فاصل معين قال بانياً للمفعول على قراءة أبي عمرو ونافع وابن كثير وأبي جعفر وابن عامر من أكثر طرقه إلا أن شدد الصاد للمبالغة في الفصل: {يفصل} أي يوقع الفصل وهو الفرقة العظيمة بانقطاع جميع الأسباب {بينكم} أي أيها الناس فيدخل من شاء من أهل طاعته الجنة، ومن شاء من أهل معصيته النار، فلا ينفع أحد أحداً منكم بشيء من الأشياء إلا إن كان قد أتى الله بقلب سليم فيأذن الله في إكرامه بذلك.
ولما كان التقدير إعلاماً بأن الله هو الفاصل وهو الضار النافع بما دلت عليه قراءة الباقين إلا أن حمزة والكسائي بضم الياء وفتح الفاء وكسر الصاد مشددة إشارة إلى عظمة هذا الفصل بخروجه عن المألوف عوداً إلى الاسم الأعظم إشارة إلى عظم الأمر بانتشار الخلائق وأعمالهم: فاللّه على ذلك قدير، عطف عليه قوله: {والله} أي الذي له الإحاطة التامة {بما تعملون} أي من كل عمل في كل وقت {بصير} فيجازيكم عليه في الدنيا والآخرة، وقد مضى غيره مرة أن تقديم الجار في مثل هذا للتنبه على مزيد الاعتناء بعلم ذلك لا على الاختصاص ولا لأجل الفواصل.


ولما أبلغ سبحانه في وعظهم في ذلك، وكانت عادته التربية بالماضين، كان موضع توقع ذلك فقال معبراً بأداة التوقع: {قد كانت} أي وجدت وجوداً تاماً، وكان تأنيث الفعل إشارة إلى الرضا بها ولو كانت على أدنى الوجوه {لكم} أي أيها المؤمنون {أسوة} أي موضع اقتداء وتأسية وتسنن وتشرع وطريقة مرضية {حسنة} يرغب فيها {في إبراهيم} أي في قول أبي الأنبياء {والذين معه} أي ممن كانوا قبله من الأنبياء، قال القشيري: وممن آمن به في زمانه كابن أخيه لوط عليهما الصلاة والسلام وهم قدوة أهل الجهاد والهجرة {إذ} أي حين {قالوا} وقد كان من آمن به أقل منكم وأضعف {لقومهم} الكفرة، وقد كانوا أكثر من عدوكم وأقوى وكان لهم فيهم أرحام وقرابات ولهم فيهم رجاء بالقيام والمحاولات.
ولما كان ما ذكر من ضعفهم وقوة قومهم مبعداً لأن يبارزوهم، أكدوا قولهم فقالوا: {إنا} أي من غير وقفة ولا شك {برءاء} أي متبرئون تبرئة عظيمة {منكم} وإن كنتم أقرب الناس إلينا ولا ناصر لنا منهم غيركم. ولما تبرؤوا منهم أتبعوه ما هو أعظم عندهم منهم وهو سبب العداوة فقالوا: {ومما تعبدون} أي توجدون عبادته في وقت من الأوقات الماضية المفيد التعبير عنها بالمضارع تصوير الحال أو الحاضرة أو الآتية كائناً من كان لا نخاف شيئاً من ذلك لأن إلهنا الذي قاطعنا كل شيء في الانقطاع إليه لا يقاويه شيء، ولا تقدرون أنتم مع إشراككم به على البراءة منه.
ولما كانوا مشركين قالوا مستثنين ومبينين لسفول كل شيء عن متعالي مرتبة معبودهم: {من دون الله} أي الملك الأعظم الذي هو كاف لكل مسلم. ولما كانت البراءة على أنحاء كثيرة، بينوا أنها براءة الدين الجامعة لكل براءة فقالوا: {كفرنا بكم} أي أوجدنا الستر لكل ما ينبغي ستره حال كوننا مكذبين بكل ما يكون من جهتكم من دين وغيره الذي يلزم منه الإيمان، وهو إيقاع الأمان من التكذيب لمن يخبرنا بسبب كل ما يضاده مصدقين بذلك. ولما كان المؤمن على جبلة مضادة لجبلة الكافر، عبر بما يفهم أن العداوة كانت موجودة ولكنها كانت مستورة، فقال دالاً على قوتها بتذكير الفعل: {وبدا} أي ظهر ظهوراً عظماً، وعلى عظمتها بالدلالة بنزع الخافض على أنها شاحنة لجميع البينين فقال: {بيننا وبينكم} أي في جمع الحد الفاصل بين كل واحد منا وكل واحد منكم {العداوة} وهي المباينة في الأفعال بأن يعدو كل على الآخر ولا يكون ذلك إلا عندما يستخف الغيظ الإنسان لإرادة أن يشفي صدره من شدة ما حصل له من حرارة الخنق. فالعداوة مما يمتد فيكون مالئة لظرفها، قال الشيخ سعد الدين التفتازاني في تلويحه على توضيح صدر الشريعة في أوائله في علاقات المجاز: الفعل المنسوب إلى ظرف الزمان بواسطة تقدير في دون ذكره يقتضي كون الظرف معياراً له غير زائد عليه مثل صمت الشهر، يدل على صوم جميع أيامه بخلاف صمت في الشهر، فإذا امتد الفعل الظرف ليكون معياراً له فيصح حمل اليوم- في نحو صرت يوم كذا- على حقيقته، وهو ما يمتد من الطلوع إلى الغروب، وإذا لم يمتد الفعل- يعني مثل وقوع الطلاق- لم يمتد الظرف، لأن الممتد لا يكون معياراً لغير الممتد فحينئذ لا يصح حمل اليوم على النهار الممتد بل يجب أن يكون مجازاً عن جزء من الزمان الذي لا يعتبر في الغرف ممتداً، وهو الآن سواء كان من النهار أو من الليل بدليل قوله تعالى:
{ومن يولهم يومئذ دبره} [الأنفال: 16] فإن التولي عن الزحف حرام ليلاً كان أو نهاراً ولأن مطلق الآن جزء من الآن اليومي وهو جزء من اليوم، فيكون مطلق الآن جزءاً من اليوم، فتحقق العلاقة.
ولما كان ذلك قد يكون لغير البغض بل لتأديب ونحوه قالوا: {والبغضاء} أي وهي المباينة بالقلوب بالبغض العظيم. ولما كان ذلك قد يكون سريع الزوال قالوا: {أبداً} ولما كان ذلك مرئياً من صلاح الحال، وكان قد يكون لحظ نفس بينوا غايته على وجه عرفت به علته بقولهم: {حتى تؤمنوا} أي توقعوا الأمان من التكذيب من أمركم بالإيمان وأخبركم عن الرحمان، حال كونكم مصدقين ومعترفين {بالله} أي الملك الذي له الكمال كله. ولما كانوا يؤمنون به مع الإشراك قالوا: {وحده} أي تكونوا مكذبين بكل ما يعبد من دونه.
ولما حث سبحانه المخاطبين على التأسي بقوله إبراهيم ومن معه في الوقت عليهم السلام استثنى منه فقال تأنيساً لمن نزلت القصة بسببه واستعطافاً له وهو حاطب ابن أبي بلتعة رضي الله عنه: {إلا قول إبراهيم} أي فلا تأسي لكم به {لأبيه} واعداً له قبل أن يبين له أنه ثابت العداوة لله تعالى لكونه مطبوعاً على قلبه، فلا صلاح له، يقال: إن أباه وعده أنه يؤمن فاستغفر له، فلما تبين له، أنه لا يؤمن تبرأ منه: {لأستغفرن} أي لأوجدن طلب الغفران من الله {لك} فإن هذا الاستغفار لكافر، فلا ينبغي لهم أن يتأسوا به فيه مطلقاً غير ناظرين إلى علم أنه مطبوع على قلبه أو في حيز الرجوع.
ولما وعده بالاستغفار ترغيباً له، رهبه لئلا يترك السعي في النجاة بما معناه أنه ليس في يدي غير الاستغفار، فقال: {وما أملك لك} أي لكونك كافراً {من الله} أي لأنه الملك الأعلى المحيط بنعوت الجلال، وأعرق في النفي بقوله: {من شيء} والاستثناء وقع على هذا القول بقيد الاجتماع، ولا يلزم منه التعرض للأجزاء، فلا تكون هذه الجملة على حيالها مستثناة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما نادى: «واصباحاه حين أنزل الله سبحانه وتعالى {وأنذر عشيرتك الأقربين} كان يقول لكل من سماه: لا أملك لك من الله شيئاً، حتى قال في آخر ذلك: يا فاطمة بنت محمد! سليني من مالي ما شئت لا أغن عنك من الله شيئاً».
ولما حثهم على التأسي بقول الخلص، وقدم منه المحافاة لأنها المقصودة، واستثنى ما لا ينبغي التأسي فيه اعتراضاً به بين أجزاء مقالهم بياناً للاهتمام به للتنفير منه من قوله، أتم ما يؤيسي فيه فقال مبيناً أنهم ما أقدموا على مجافاتهم بما قال إلا وقد قرروا جميع ما يقولونه ورضوا به دون موادتهم وانقطعوا إلى الله وحده انقطاعاً تاماً يفعل بهم ما يشاء من تسليطهم عليهم أو حمايتهم منهم، لكنهم سألوا الحماية لا لذاتها ولا لأنفسهم بل لئلا يزيد ذلك أعداءهم ضلالاً {ربنا} أي أيها المحسن إلينا بتخليصك لنا من الهلاك باتباعهم {عليك} أي لا على غيرك {توكلنا} أي فعلنا في جميع أمورنا معك فعل من يحملها على قوى ليكفيه أمرها لأنا نعلم أنك تكفي إذا شئت كل ملم، وأنه لا يذل من والتي ولا يعز من عاديت وقد عادينا فيك قوماً عتاة أقوياء ونحن ضعفاء، ورضينا بكل ما يحصل لنا منهم غير أن عافيتك هي أوسع لنا.
ولما كان الذي ينبغي لكل أحد وإن كان محسناً أن يعد نفسه مقصراً شارداً عن ربه لأنه لعظم جلاله لا يقدر أحد أن يقدره حق قدره، وأن يعزم على الاجتهاد في العبادة قالوا مخبرين بذلك عادين ذلك العزم رجوعاً: {وإليك} أي وحدك لا إلى غيرك {أنبنا} أي رجعنا بجميع ظواهرنا وبواطننا. ولما كان المعنى تعليلاً: فإنه منك المبدأ، عطف عليه قوله: {وإليك} أي وحدك {المصير} ولما أخبروا بإسلامهم له سبحانه وعللوه بما اقتضى الإحاطة فاقتضى مجموع ذلك الثناء الأتم، فلزم منه الطلب، صرحوا به فقالوا داعين بإسقاط الأداة للدلالة على غاية قربه سبحانه بما له من الإحاطة: {ربنا} أي أيها المربي لنا والمحسن إلينا {لا تجعلنا} بإضعافنا والتسليط علينا {فتنة} أي موضع اختبار {للذين كفروا} بأن يعذبونا بعذاب يميلنا عما نحن عليه ويميلهم عما وصلوا إليه بسبب إسلامنا من الزلازل بما يوجب ذلك لهم من اعتقاد لو أنك كنت راضياً بديننا لكنا على الحق وكانوا هم على الباطل ما أمكنت منا، فيزيدهم ذلك طغياناً ظناً منهم أنهم على الحق وأنا على الباطل.
ولما كان رأس مال المسلم الأعظم الاعتراف بالتقصير وإن بلغ النهاية في المجاهدة فإن الإله في غاية العظمة والبعد في نهاية الضعف، فبلوغه ما يحق له سبحانه لا يمكن بوجه قالوا {واغفر لنا} أي استر ما عجزنا فيه وامح عينه وأثره.
ولما طلبوا منه الحياطة من جميع الجوانب، عللوه زيادة في التضرع والخضوع واستجاز المطلوب مكررين صفة الإحسان زيادة في الترقق والاستعطاف بقولهم: {ربنا} أي المحسن إلينا، وأكدوا إعلاماً بشدة رغبتهم بحسن الثناء عليه سبحانه واعترافاً بأنهم قد يفعلون ما فيه شيء من تقصير فيكون من مثل أفعال من لا يعرفه سبحانه فقالوا: {إنك أنت} أي وحدك لا غيرك {العزيز} الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء {الحكيم} الذي يضع الأشياء في أوفق محالها فلا يستطاع نقضها، ومن كان كذلك فهو حقيق بأن يعطى من أمله فوق ما طلب.

1 | 2